الجمعة، ٥ تشرين الثاني ٢٠١٠

"صحن حمص"! بقلم: نادر رنتيسي

أيامٌ قليلة وأمارسُ واجبي في الانتخابات على أكمل وجه. سأصحو باكرا، على غير المعتاد، ولديَّ مهمَّة واحدة فقط؛ القيامُ بجولة أخيرة في شوارع دائرتي، الضيقة بطبيعة الحال، واختيارُ مرشَّح واحد أمنحه صوتي الوحيد. هي مهمة صعبة للغاية تشبه تخيير الولد الصغير: "أيهما تحبُّ أكثر أمك أم أباك.."؛ فتخيلوا معي كم هو مقدار حيرتي!

كنتُ أتمنى لو أنَّ القانونَ منحني صوتا آخر في دائرة أوسع (وليس هذا اعتراضا صريحا على القانون الذي يمشي على رقبتي الطيِّعة)، لكنني ودَدْتُ لو أستطيع إرضاءَ كلَّ المرشحين الذين كتبوا كلاما جميلا لا يحتملُ النقض أبدا، وأكادُ أجزمُ أنَّ تنفيذ برنامجين انتخابيين، يتم اختيارهما بشكل عشوائي، كفيلٌ بالاستغناء عن وزارة التنمية الاجتماعية في كل الحكومات اللاحقة، وأنْ يُصبحَ صندوق المعونة الوطنية تذكارا خشبيا يُباعُ في محلات "الأنتيكا" بوسط البلد!

إلا أنني مضطرٌ للالتزام بالقانون، حتى الدورة المقبلة على أبعد تقدير، عندها سيكونُ لي أكثر من صوت؛ هكذا وعدت الحكومة، وبالأصل أنا مواطنٌ صالح أصدِّق كلَّ ما يَرِدُ في نشرة أخبار الثامنة. لذلك لم ألتفت أبدا إلى دعوات المقاطعة، وشحذتُ صوتي، رغم كونه مبحوحا بالأصل؛ فقد صوَّتُ في كلِّ الدورات السابقة ومجالس البلدية، واتحادات الطلبة، والأندية الثقافية، وفي رابطة قريتي،..لم أتوان يوما عن حقي الدستوري، حتى عندما أختلف مع زوجتي أخضع الأمر للتصويت، ودائما صوتها يكونُ مرجِّحا..؛ فلم يحدث أنْ فاز مَنْ انتخبته!

أهبطُ إلى الشارع مزهوا، أشعرُ أنَّ كلَّ شيء على وشك الحل: التضخم سيصيبه هُزالٌ صحي، وأيُّ شقة سكنية سيعودُ إيجارُها 20 دينارا بـ"إكرامية" حارس العمارة الوافد، والبحر الميِّت سيصحو على ذهب أسود سائل، والبطالة التي كانت "سافرة" بمعدلات عالية ستصبحُ كلها مقنعة، خط الفقر سيكون وهميا ومتخيَّلا، تماما مثل خط الاستواء في مخيلة طلبة الجغرافيا بصف إعدادي، في مدرسة حكومية، يستوعب خمسة عشر طالبا.. بأقصى حالات الاكتظاظ!

باختصار؛ فإنَّه في اليوم التالي للانتخابات لن يكون هناك مبرر واحد لكلِّ برامج البثِّ المباشر القائمة على شكاوى الجمهور، وستتحوَّلُ جميعها إلى ساعة رومانتيكية يحنُّ فيها، منْ لم تتقبَّل هيئاتهم أن تركبَ عليها "وجوه النعمة"، إلى الزمن القريب الذي كانت فيه الأسعارُ ترتفع نهاية كلِّ شهر، بالتزامن مع الراتب؛ الشيء الوحيد المتزن والمحافظ على ثباته!

أشياءٌ صغيرةٌ أيضا ستتحقق من دون كثير من التخطيط؛ فالمنتخب الوطني سيعود من البرازيل متجهما على كبرياء بالمركز الثالث في كأس العالم القادمة، وسيكون لدينا نجم كوميديا (دمه خفيف بجد)، غير قابل للإصابة بأعراض الكآبة التي تداهمه كلما تذكر فواتير الكهرباء المتراكمة، وعلى الأغلب سيُصبح عندنا "مطرب أردني كبير"، نسمعه في المقرَّرات الإذاعية الصباحية يُغني.. فقط يُغني، وليس لديه وظيفة أخرى بعد الظهر!!

قبل ذلك؛ أعني الآن على بُعد أيام قليلة من "العرس الانتخابي" الأجواء تبعثُ على التفاؤل لدي شخصيا، وقد جسَّدتُ ذلك في كلِّ جولاتي إلى المقرَّات الانتخابية، شاركتُ في التصفيقَ والهتاف؛ فكلهم كلامهم جميل وفي "خدمة الصالح العام"، والأجمل أنَّ الأجواءَ ليست جادَّة تماما، وليست كلها سياسة نكِدة، فهناك أضواء وأغان.. وأجواء احتفالية شاهدتها في فيلم "المولد"..

والأهم أنَّ هناك طعاما يقدَّم ببذخ عال؛ وأنا جائع لا أخجلُ من البوح بذلك، وأستحثُّ الأخ المرشح، والأخوة المؤازرين الاقتضاب في الحديث فـ "لا سلام ولا كلام على طعام". ذقتُ كلَّ الأصناف، وجرَّبت الأنواع التقليدية من "الحلو"، وتماديتُ أكثر في الدلال، وحملتُ مثل غيري من الناس صحنا عميقا من أجل "الحمص"..

أصبتُ بتخمة وذهبتُ إلى المستشفى، وتناهى الخبر إلى مسامع المرشحين في الدائرة، فتقاطروا تباعا إلى المنزل المتواضع (الذي أتوهُ أنا في الوصول إليه من كثرة الدخلات التي تؤدي إليه)؛ "النائب السابق" أسمعني مكالمة مسجلة مع مدير المستشفى يحثه فيها على العناية بي، و"النائبة" الموعودة بضمان الكوتا جاءت بعلبة "شوكولاتة"، من تلك الرخيصة التي أقدمها لمحارمي في العيد الصغير!

..أيام ونمضي إلى الانتخابات، كلّ واحد سيذهبُ بصحن عمقه متفاوت؛ سأدلي بصوتي لمرشَّح اخترته لاعتبارات لا اعتبار لها، وسأخرجُ مغتبطا بحقي الذي مارسته على أكمل وجه ببطن ممتلئة..؛ ولا شيءَ فارغ أبدا إلا الصحن الذي ادخرته لـ"الحمص"!

بقلم: نادر رنتيسي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق