الأحد، ٣١ تشرين الأول ٢٠١٠

الحياة في باص بقلم: يوسف عبد العزيز

"لقد أصبحتُ مُغرَماً بالأحياء الشّعبية، وبتتبّع حركة الحياة الصّاخبة في الشّوارع والأزقّة الضيّقة. منذ شهر تقريباً أهبط إلى قاع المدينة بشكل شبه يومي، أتناول إفطاري في أحد المطاعم، ثمّ أذرع الأسواق ذهاباً وإياباً. بعد ذلك أختار أحد الأحياء القديمة فأستقلّ الباص الذّاهب إلى هناك. لا بدّ لكَ من أن تتلمّس إيقاع الحياة، وأن تشاهد الأوضاع على حقيقتها إن أردت أن تكتب"، قال محدّثي الذي دأب مؤخّراً على كتابة روايته الجديدة، التي تدور عن عمّان.

"سأحدّثكَ عن مجتمع اسمه مجتمع الباصات، إلى درجة أنّكَ تستطيع اختزال حياة كاملة من خلال الباص"، قال محدّثي، وانبرى في سرد مجموعة هائلة من الوقائع الغريبة:

استمرّت رحلاتي المكوكيّة في أحياء عمّان الشعبيّة. في هذه الأثناء، التمعت في رأسي فكرة الرّواية. لقد قرّرت أن أكتبها انطلاقاً من أجواء تلك الرّحلات.

تأمّل معي هذا المخطّط الأوّلي لأحد فصول الرّواية، والذي أطلبه منك هو أن تعطيني رأيك بصراحة، وأن تقول لي إن كان مناسباً أن أبني روايتي عليه أم لا، فهو فصل أساسي فيها.

يصل "أبو الورد" موقف الباص عند تمام الساعة الواحدة بعد الظّهر. أبو الورد هذا رجل في السّتين من العمر، وله محلٌّ صغير لبيع الورود في الحيّ. سُمّي أبو الورد بهذا الاسم لعلاقته الفريدة بالورود، فهو يشتري الورد ويبيعه، ويتزيّن به، ويهديه. صعد أبو الورد الباص الذي جاء بعد ربع ساعة من الانتظار. اختار مكاناً فارغاً بجوار شاب صغير، كان يبدو في أوائل العشرينيّات من عمره. الشّاب كان يحتل ثلثيّ المقعد المشتَرَك. كان منهمكاً في التدخين، ويحتسي القهوة. نظر أبو الورد باتجاهه نظرة ذات مغزى، وكأنه يقول له أرجوك افسح لي مكاناً لأرتاح في جلستي، غير أنّ الشاب لم يعر انتباهاً لأبي الورد، وظلّ في جلسته كإمبراطور يتربّع على عرشه.

في الباص ثمّة ركاب كثيرون، رجال ونساء، طلاب وطالبات، وأطفال من مختلف الأعمار، ولكنّ ما يوحّدهم هو طبيعة الشّريحة الاجتماعيّة التي ينحدرون منها، لقد كانوا جميعاً من الطبقة الكادحة، أو من طبقة الفقراء، فأنت لو جلت بعينيك في أنحاء الباص الكبير لن تجد أثراً (للطّنطات) فيه. ما إن امتلأ الباص بالركاب حتى صاح (الكنترول) بالسّائق بصوتٍ عالٍ قائلاً: "يوووووح". أغلق السّائق الأبواب وابتدأت الرّحلة.

في هذا الفصل سأركّز على الأحاديث الجانبية بين الركاب، والتي كانت تدور في معظمها حول الارتفاع الشديد في الأسعار، وحول أحلامهم الصّغيرة في أن يكون لهم حياة عُشر جميلة وهادئة. سيكون هناك من ينزل ويصعد. ما أريد أن أقوله إنّ هذا المشوار سيكون بمثابة رمز لرحلة أخرى هي رحلة الحياة.

سأتوقّف طويلاً عند أبي الورد، الذي سوف أجعله ينخرط بنوبة عظيمة من أحلام اليقظة، ولا يصحو على نفسه إلا عندما يوجّه له جاره الغِرّ لكزةً من كوعه. عندها سينظر مليّاً في وجه الشّاب، فلا يجد أمامه غير تلك الملامح الجاحدة الأقرب إلى ملامح المجرم! سيشير الشاب لأبي الورد بحركة مقتضبة من أصابعه كي يبتعد عن طريقه، لأنّه سينزل. في هذه الأثناء سيعلو صوت أغنية "شطّ الإسكندرية" من مسجّل الباص، وعلى أنغامها سيترنّح الكنترول، مردّداً بين الفينة والأخرى الأسماء المغلوطة للأمكنة، وذلك بسبب الإعاقة اللفظية التي يبدو أنّه يعاني منها.

في الخارج ستكون الطّريق محفوفة بعدد هائل من اليافطات الانتخابية وصور المرشّحين، التي ستنصب فائدتها على كسر إيقاع الرتابة التي تعاني منها الطّريق.



بقلم: يوسف عبد العزيز

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق