الأحد، ٣١ تشرين الأول ٢٠١٠

يافطات..! بقلم: علاء الدين أبو زينة

اليافطات، أوضح شارة للاحتجاج. تصوروا مظاهرة بلا يافطات؟! وهي تُنبئ عمّا سيأتي: "ترقَّبوا افتتاح.."؛ وهي إعلان عن الرغبة في البيع: "تنزيلات بالجملة على كل شيء.. في الداخل".

وفي كل هذه الإعلانات، تنفع يافطات القماش لأنها أقل كلفة، ولأن محتوى الإعلان مؤقت لا يستوجب التثبيت على آرمات دائمة. واليافطات أيضاً رفيقة الانتخابات. وقد تغيّرتا معا في الشكل، مثلما يفعل كل شيء مع الوقت، لكنهما ظلتا وفيتين للجوهر- للمحتوى الصامد أمام فكرة "التطوُّر" الديمقراطي. والواقع أن اليافطات الانتخابية في شكلها الجديد كسرت لنا إيقاع الرتابة، وأرخت قليلاً قبضة الضجر الذي يصاحبنا في الشارع-المكان، وكذلك في شارع اليوم الذي نعبره نفسه كل يوم، بنفس المشاهد والترتيب.

أيام زمان، كانت اليافطات الانتخابية بيضاء اللون في الغالب، غير طبقية تقريبا، من قماش "البفت" المخطوط عليه بالأسود والأحمر. لكنها غيرت جلدها، وتبرَّجت الآن بكل الألوان، وبعبارات أنيقة بيضاء أو صفراء فسفورية أو ليلكية. وبهذا التغيير المحمود، ذهب شبه اليافطات البيضاء القديمة برايات الاستسلام والهزيمة. لكن تلوُّن يافطات الانتخابات الجديد جاء مصحوبا باحتمال الخطر: لون اليافطة قد يوحي بأن للمرشح لونا أيضا: الأحمر شيوعي؛ والأخضر إسلامي؛ والبرتقالي أوكراني؛ والوردي جورجيّ. وهرباً من "الفئوية"، لجأ المرشحون الحريصون على تأكيد "عدم الانحياز" إلى تلوين يافطاتهم بكامل ألوان الطيف، وبذلك تتفرق هويات انتماءاتهم بين قبائل الألوان. أما الشيء الجميل الآخر الجديد، فهو الصور الشخصية الكبيرة من "الفليكس"، والتي تعرض وسامة المرشح واستحقاقه الشكلاني لمهمة التشريع. ومن المهم جداً أيضاً إبراز الاسم الأول والأخير -خصوصاً الأخير- بالقلم العريض.

المهم.. صنع الحرص على "عدم الانحياز" وتطور التقنيات الإعلانية في شوارعنا مهرجاناً من الألوان. ومع ذلك، جاء تزاحم اليافطات على الأماكن وتوزيع الألوان والحجوم والتراكب بهذا الشكل، مرتجلاً ومخربشاً، مثل ملابس شخص حديث النعمة، شعبيِّ الذوق، لم يتعلم بعد كيف يدخل محل ملابس خبير "يلبِّقُ" له ألوان ملابسه. وتبدو رقاع القماش المتراصفة بألوانها الفاقعة مثل فستان راقصة غجرية، أو ملابس مهرج في سيرك، أو مثل "طبيخ الشحاذين". لكن هذا اللاترتيب العفوي ربما لم يكن عفوياً. ربما جاء ليقول، مثلاً: "كلٌّ يغنّي على ليلاه"؛ "هاكم سعة الطيف ومثال التعددية"! "شاهدوا الفوضى الخلاقة"؛ أو.. "والله إن أحداً لم يرتب شيئاً لشيء أو أحد.. انظروا: كل شيء تلقائي فقط، وبسيط".. أما ضربات الفرشاة التي يرقّشُ بها مريدو مرشح يافطات المنافس، أو يصنعون لقُماشاته هُدُباً و"شراشير" مثل سيقان سروال جينز معاصر، فكلها تعطي اللوحة مزيداً من الاكتمال: لمسة من الحداثوية.

لكن مهرجان اليافطات طارئ، مثل طبع اليافطات المؤقت. وهو "جمعة مشمشية" للخطاطين والرسامين الذين حضروا السوق، فتسوقوا. وهو فسحةٌ قصيرة ليس لها روح، مثل ثمار الفراولة الناضجة. ومن المحزن أن هذه اليافطات والصور الزاهية المكلفة منذورة للذهاب قريباً، حين ستصبح عبئاً على الأعمدة والجدران، ولا نعرف أين نذهب بها. وسوف يغسل المطر مساحيق الألوان وأجواء الاحتفال من الشوارع والخواطر، فيعود كل شيء إلى رتابته، ونعود نحن إلى مصيدة الضجر. ومع اليافطات، ستذهب عباراتها العبقرية التي اختزل فيها كاتبوها كل الحكاية، بحيث تنوب عن البرامج الانتخابية الفائضة المملة التي قد لا يرغب سماعها أحد. (بعضها تُضحك، فتفرِّجُ الكَرب؛ وبعضها تزعم لأصحابها الكرامات وصناعة المعجزات، مثل جنيّ المصباح). لكن الذي يعزّي في ذهاب اليافطات، هو ذهاب الخطر الذي يحوّم فوق رؤوسنا ونحن نسير تحتها، خائفين من هبة ريح ربما تُسقط علينا يافطة ثُبتَتْ على عجل لحجز المكان.

سوف تذهب اليافطات الانتخابية، وربما لن يقرأها الكثيرون، لأن قراءتها كلها تحتاج شخصاً رائق البال، يدرسها ماشياً على رجليه ومتقصداً. وسوف تبقى في شوارع المكان واليوم وجوه الناس العاديين "غير المهمين" وملابسُهم، شاخصاتٍ بَسيطةٍ بلا كلام، ومهرجانَ ألوانٍ لا ينتبه إليه، لشدَّةِ إلفته، أحد. وآخر ما يحضرني عن اليافطات، شيء أستعيره –إذا جاز لي- لهؤلاء الذين يعطون للوطن المعنى بلا ضجيج، من أخي، رزق، حين كتب للوطن:

"أنا لا أدَّعيكَ شِعاراً ولا يافِطَهْ..

ولَنْ أكتُبَ اسْمَكَ فوقَ قميصي،

لأَختالَ بينَ الطَّواويسِ والهِمَم الهابطَهْ.."



بقلم: علاء الدين أبو زينة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق