الاثنين، ٢٢ تشرين الثاني ٢٠١٠

حبل الثقة بقلم:عيسى الشعيب

أحسب أن عنصر الثقة هو حجر الأساس الغائر عميقاً في باطن الأرض تحت معمار العلاقات البينية القائمة بين الناس كافة، لا تراه عين ولا تجسه يد ولا تلتقطه عدسة مصور، لكنه يُدرك بالعقل ويُفهم بالإشارة، يحضر هادئاً ويقيم صامتاً ويندرج مدرج قنطرة العبور بين كل اثنين، زوجين كانا أم رفيقين أم شريكين، تحت ظلاله الخفية تُبنى الأسر وتقوم الشراكات وتتوطد الأواصر والمصالح وأركان الدول.

وأحسب أيضاً أن عنصر الثقة هو الشقيق الأصغر والأجمل في نسب شجرة أسرة تمتد أغصانها على هيئة كتلة خضراء مثمرة، يتزيّن أحد فروعها بفاكهة الصدق والأمانة والثاني بالوفاء والاحترام، والثالث بالمودة والعفة، وبقية الفروع بكل الثمرات الشهية الأخرى، من الاستقامة الذاتية إلى النظافة الداخلية إلى الالتزام الطوعي، وكل تلك الخاصيات التأسيسية القابلة للتشخيص والاختبار والاستدلال عن كثب بين الأفراد والجماعات.

وحين يغيب عنصر الثقة، أو قل ينقطع هذا الحبل السريّ المكتوم، عن مجرى حياة زوجين، تتصدع الأسرة أو تنهار كلياً، وعندما يحل الارتياب محل هذا المكوّن في إطار علاقة منفعة بين شريكين تجاريين تتزعزع الشراكة أولاً ثم تمضي شخصيتها القانونية إلى الإفلاس فيما بعد، وكذلك هو مآل الحال بدونه بين الأصدقاء، بين المنتجين والمستهلكين، الوسطاء والمهنيين والعشاق، وبين كل طرفين أو شقين متكافئين يعتمد كل منهما على الآخر في شتى المبادلات المادية والعاطفية سواء بسواء.

وأبعد من ذلك، يبدو توفر عنصر الثقة بمثابة الشرط الموضوعي الأول اللازم لبناء الدول وتوطيد أسس الحكم وإدامته بعصا سلطة ناعمة تعلو هيبتها هيبة عصا سلطة القانون والنظام العام. فحين يسود هذا العنصر ويتعزز حضوره في مبنى العلاقات المركبة بين الحكام والمحكومين، يقبل الناس على أداء واجباتهم، والوفاء بالتزاماتهم، وتقبل الأعباء الإضافية، باستجابة أوسع مدى، وتفهم أعمق غوراً، ونتائج أفضل من مفاعيل القوة الجبرية ومفردات قهرية الإكراه.

لا يحتاج تعلّم قانون الثقة هذا إلى دروس تمهيدية، ولا يتطلب حفظه عن ظهر قلب إلى شروحات إضافية، كما أنه مادة غير منصوص عليها في القانون، ولا وجود له في أحكام الفقه والدستور، لا يكتب في وثيقة زواج، ولا يدرج كبند في تعاقد بين طرفين، ولا يُنص عليه خطياً في رباط قلبي بين حبيبين؛ إلا أن توفر الثقة يعد بمثابة الكيمياء العضوية المتممة لكل علاقة ثنائية على أي مستوى ومن أي نوع، بتوفرها تستقر الأسس الهيكلية للبنى الاجتماعية القائمة، وبالافتقار إليها تضطرب حياة الدول والجماعات والأفراد.

وإذا كان الضد يظهر حسنه الضد، فإن العنصر المقابل لعامل الثقة، المتراوح بين حديّ الغش والغدر، يعد أحد أهم الشواهد التي يستدل بها على مدى أهمية تمتين وصيانة حبل الثقة في شبكة العلاقات اليومية بين الناس على مختلف مستوياتهم الثقافية وأنويتهم الاجتماعية. فحين ينفصم هذا الحبل، تبهت العواطف وتتحدب المرايا ويكفهر الوقت، ويضطرب اليقين، ثم ينفلت الحبل من بين أيدي الجميع والعياذ بالله. أما حين ينعدم بين الدول، فإن الباب ينفتح على أسوأ الاحتمالات، وفق ما تنطق به مختلف التجارب التاريخية وتدلي به الوقائع المعاصره.


بقلم: عيسى الشعيب

هناك تعليق واحد: