السبت، ٣٠ تشرين الأول ٢٠١٠

مؤتمرات تكافح الفساد بما ينميه!

إن أحدا من الراسخين في علم الفساد, ومن الباحثين الجادين في ظواهره المختلفة, لا يصدِّق أن عقد مزيد من المؤتمرات (الرسمية) الدولية والإقليمية يمكن أن يأتي بنتائج (عملية) يعتد بها في مجال مكافحته, فمزيد من الفساد هو ما يتمخض عنه عقد مزيد من المؤتمرات الرسمية, وبذل مزيد من الجهود (الرسمية) لمكافحته, التي بفكرتها ومنطقها ووسائلها وأساليبها, وبشخوصها أيضا, تؤكد وتظهر أن النفاق هو المداد الذي به يكتب خطاب الحرب على الفساد.

الفساد, لجهة استشرائه واستفحاله, على ما نرى ونعاني الآن على وجه الخصوص, إنما هو العولمة, بوصفها القوة التي حررت الميكيافلية من كل قيد, أي جعلتها ميكيافلية خالصة حرة, فالجدل (الفلسفي والأخلاقي والسياسي) في أمر العلاقة بين الغاية والوسيلة انتهى, في العولمة, وبها, إلى وزن الوسيلة بميزان واحد فحسب هو صلاحيتها لبلوغ الغاية, التي على اختلاف وتنوع صورها وأوجهها يظل المال, لجهة اكتسابه وزيادته وتنميته, هو أهم صورها وأوجهها.

الآن, حيث العولمة رفعت منسوب الوحشية في النظام الرأسمالي, أصبحت البيروقراطية الحكومية, الممعنة في انفصالها عن المجتمع, هي مصدر الفساد الأول والأعظم, قوميا وعالميا, فالبيروقراطيون الحكوميون, من أصغرهم حتى أكبرهم, يملكون الآن من سلطة الوظيفة ما يجعل هذه الوظيفة دجاجة تبيض لهم ذهبا.

الريح الاقتصادية القوية للعولمة دفعت, وتدفع, الشركات الكبرى والعملاقة في دول المركز من النظام الرأسمالي العالمي إلى التوسع في استثمار رؤوس أموالها في أسواق دول المحيط, فتهيأ المناخ الملائم لشيوع واستفحال ظاهرة الراشي والمرتشي والرائش, والتي قوامها شراكة في المصالح بين تلك الشركات وكبار البيروقراطيين الحكوميين (في دول المحيط) المنظمين جيدا (وكأنهم حزب سري) بقوة قانون المصلحة في حلته الميكيافلية. ولم تكن تلك الشراكة, وعلى وجه العموم, لتنزل بردا وسلاما على الشعوب والمجتمعات والاقتصاد في دول المحيط, وكأن تلك الدول هي خير سلعة يتجر بها البيروقراطيون الحكوميون مع شركات الغزو الاقتصادي الأجنبية.

ولقد عرفوا كيف يؤسسون للفساد (بأوجهه كافة) بنية تحتية في الجهاز البيروقراطي الحكومي, فصغار الموظفين البيروقراطيين جعلوا لهم معاشا هو الممات بعينه, فالإفقار, في معناه الاقتصادي, هو الذي ينتج, إن عاجلا أو آجلا, الفقر, في معناه الروحي والأخلاقي, فكلما تضاءل راتب الموظف (الحكومي) بالغلاء والتضخم, نمت فيه النفس الأمارة بالسوء, فأصبح للفساد جيش بعدما استحدث له قيادة.

كل الحقوق تتعطل, وتُعطَّل, حتى يصبح ممكنا توظيف الوظيفة البيروقراطية الحكومية في خدمة المصلحة الشخصية لصاحبها, الذي ما أن يملك سلطة بيروقراطية, ولو كانت في منتهى الضآلة, ويعي أهميتها, حتى يصبح ميكيافليا بالغريزة.

حتى ما يطلق بين الفينة والفينة من حملات للإصلاح الإداري, ولمكافحة الفساد, تلقى المصير نفسه الذي تلقاه معاملة المواطن, فالبيروقراطيون الحكوميون, كبارا وصغارا, يعقِّدون, عن عمد وقصد, هذه المعاملة, أي الحملة, فتعود إلى مطلقيها.

الفساد عربيا, ليس بآفة أو مرض, وإنما نمط حكم للحكومات, ونمط عيش للمجتمعات; إنه نمط حكم, لأنك لا تستطيع أن تتخيل حكومة عربية تحكم بغير الفساد, بكل دركاته وصوره وأنماطه, فالحكومات عندنا تحكم لمصلحة أقلية, تتخذ من فرد مركزا لها ولسلطانها, فكيف لها أن تحكم, وتبتني لها قاعدة شعبية, إذا لم يكن في وسعها أن تتصرف بالمال العام كما تشاء.

بكثير من الفساد تتوفر دولنا على جباية المال من مواطنيها ورعاياها, وبفساد أكثر تتولى إنفاقه وتوزيعه وصرفه واستثماره, فالسرقة والنهب والتهريب.. هي جوهر صلة النافذين, وكبارهم, بهذا المال العام, وليس الاشتغال بالسياسة بالأمر الذي يمكن فهمه وتفسيره بمنأى عن هذه الدونية, فالثراء ينبغي له أن يترجم بسلطة, ينبغي لها أن تترجم بثراء!

في عالمنا العربي, ما عاد لدينا, والحمد لله, قيادات تطمع بالتاريخ, أي بدخوله, فتزهد عن متاع الغرور, وتسعى في أن تقود وتحكم بما يجعلها من ذوي المجد.

ويكفي أن تعاني القيادات العربية ما تعانيه من فقر قيادي حتى يشتد لديها الميل إلى أن تقود وتحكم بما يجعلها من ذوي الثروات الطائلة, التي من الفساد تتخذ لها طريقا وسبيلا.

اضربوا صفحا عن كل الديكور الديمقراطي, كالانتخابات والبرلمان والصحافة الحرة, فثلاثية "الراشي والمرتشي والرائش" هي أسلوب من أساليب الحكم, فسلطة التصرف بالمال العام, والتي تحتكرها قلة قليلة من المواطنين غير العاديين, لا تمارس من أجل الثراء الشخصي والعائلي فحسب, بل من أجل تأليف القلوب, وابتناء قاعدة شعبية فاسدة, فهم ينفقون المال, على حبهم له, شراء للتأييد, أو للسكوت, وإلا لجأوا إلى آخر العلاج وهو الكي. الرئيس, ما أن يتورط في الفساد (الضروري) في ولايته الرئاسية الأولى حتى تشتد لديه الحاجة إلى ولاية ثانية, فثالثة, فرابعة, أي إلى الأبدية في تربعه على عرش الرئاسة, وإلى التوريث, توريث الحكم لنجله, من ثم, فالذهاب إلى بيته بعد ولاية أو ولايتين يمكن أن يخرجه من بيته (مع عائلته وآخرين) إلى السجن. إن في خوفه (وخوف حاشيته) من المستقبل يكمن السرين: سر "الأبدية" في الحكم, وسر "التوريث".

يظل الخوف من المستقبل يستبد به, ولن تطمئن نفسه, ولو اقترحوا عليه أن يسنوا له قانون "الخروج الآمن" من الحكم, فالحصانة الأبدية ليست بإغراء الرئاسة الأبدية. حتى ان مرؤوسيه من كبار النافذين لا يسمحون له بالنجاة وحده, وكأن الرئاسة الأبدية مع التوريث هي وحدها قارب النجاة للقوم جميعا!

إنه, أي هذا الرئيس, يرى في بقائه الأبدي في الحكم استبقاء للسيف في يده اليمنى, وللترس في يده اليسرى, فأين هو المنطق في أن يدعى إلى التخلي عن السيف والترس, وأن يذهب إلى بيته الذي يحدق به الأعداء من كل حدب وصوب?! لقد ولى زمن الانقلابات العسكرية, الذي فيه عرفنا الرئيس قصير العمر سياسيا (وفيزيائيا). وها نحن الآن في الزمن الآخر, حيث الفساد يؤسس للرئاسة الأبدية, ولتوريث الحكم للأبناء, وللأحفاد من ثم.

بقلم: جواد البشيتي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق